سورة الأعراف - تفسير تفسير ابن جزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}
{وَلِقَآءِ الآخرة} يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي: ولقاؤهم الآخرة، أو من إضافة المصدر إلى الظرف {واتخذ قَوْمُ موسى} هم بنو إسرائيل {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد غيبته في الطور {مِنْ حُلِيِّهِمْ} بضم الحال والتشديد جمع حلى نحو ثدي وثدي، وقرئ بكسر الحاء للإتباع وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام، والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة {جَسَداً} أي جسماً دون روح، وانتصابه على البدل {لَّهُ خُوَارٌ} الخوار هو: صوت البقر، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل فصار له خوار، وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ} ردّ عليهم، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته {اتخذوه} أي اتخذوه إلهاً، فحذف لمفعول الثاني للعلم به، وكذلك حذف من قوله: واتخذ قوم موسى {سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندموا يقال: سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره {أَسِفاً} شديد الحزن على ما فعلوه، وقيل: شديد الغضب كقوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا ا} [الزخرف: 55] {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} أي قمتم مقامي، وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف، والمخاطب بذلك أما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام، حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} معناه: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل {وَأَلْقَى الألواح} طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضباً لله من عبادة العجل {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي شعر رأسه {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} لأنه ظن أنه فرَّط في كف الذين عبدوا العجل {ابن أُمَّ} كان هارون شقيق موسى، وإنما دعاه بأمّه، لأنه أدعى إلى العطف والحنوّ، وقرئ ابن أم بالكسر على الإضافة إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء بالفتح تشبيهاً بخمسة عشر جعَل الاسمان اسما واحداً فبنى {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} أي لا تظن أني منهم أو لا تجد عليَّ في نفسك ما تجدُ عليهم يعني أصحاب العجل {غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ} أي: غضب في الآخرة وذلة في الدنيا {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} أي سكن، وكذلك قرأ بعضهم، وقال الزمخشري: قوله: سكت مثل كأن الغضب كان يقول له ألق الألواح وجُرّ برأس أخيك، ثم سكت عن ذلك {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي فيما ينسخ منها، والنسخة فعلة بمعنى مفعول {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يخافون، ودخلت اللام لتقدّم المفعول كقوله: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وقال المبرِّد: تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم.


{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}
{واختار موسى قَوْمَهُ} أي من قومه {سَبْعِينَ رَجُلاً} حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقاباً لهم على قولهم، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته، والأوّل أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء، والأول أظهر لقوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وإياي} يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل ان يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي الأمور كلها بيدك {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} ومعنى هذا: اعتذار عن فعل السفهاء، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو: استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يتقضي شيئاً مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما يفعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافاً لله وبراءة من فعل السفهاء {قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} قيل: الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة، والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم، وقرئ من أساء. بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال: إنها تصحيف {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصاً في الرحمة، وعموماً في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي: تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصاً في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموماً في الرحمة، وفي كل شيء {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم، وهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانت رحمة الدنيا، فهي أيضاً مختصة بهم لأن الله نصرهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم، وإن كانت على الإطلاق: فقوله: سأكتبها تخصيص للإطلاق {والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغير هذه الأمّة.


{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
{الذين يَتَّبِعُونَ الرسول} هذا الوصف خصص أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: لما قال الله: ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس، فلما قال: فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله، وبقيت اليهود والنصارى {النبي الأمي} أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48]، قال بعضهم: الأميّ منسوب إلى الأمّوقيل: إلى الأمة {النبي الأمي} ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل، وكذلك الضمير في عندهم، ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأمّيين أنت عبدي ورسولي، أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به عيوناً عمياً، وآذناً صماً، وقلوباً غلفاً».
ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق بأيديهم إلى الآن: إنّ الملك نزل على إبراهيم فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم: ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ، وتفسير هذه الحروف محمد [سفر التكوين: 17].
ومن ذلك في التوراة إنّ الرب تعالى جاء في طور سيناء، وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام، وساعد موضع عيسى وفاران هي مكة موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه، ومعنى ما ذكر من مجيء الله وطلوعه وظهوره هو: ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع، وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطاباً لمكة: قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل الأرض الظلام، وعلا على الأمم المصاب، والرب يشرق عليك إشراقاً، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك، وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم: لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته.
ومن ذلك في التوراة سفر [التكوين: 16] أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك فقال لها: يا هاجر أي تريدين؟ ومن أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولداً اسمه إسماعيل هو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وظهور دينه وعلو كلمته، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك أيضاً من التوراة أن الرب يقيم لهم نبياً من إخوتهم، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هو إخوة أولاد إسحاق، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلى الله عليه وسلم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم.
ومن ذلك في التوراة: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيماً، وأجعله لأمة عظيمة.
ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. وبهذا وصف الله سبحانه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3-4] وتفسير الفارقليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محمد وأحمد وقيل معنى الفارقليط الشافع المشفع.
ومن ذلك في التوراة: مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون، وبيان ذلك أن أمته يقرأون: الحمد لله في صلاتهم مراراً كثيرة في كل يوم وليلة، وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك، وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عظمائهم وخيارهم، قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئاً مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني، فقال يا بني: قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئاً مما كان يعلم، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث، وقد أطل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه؛ وقد قطعها من كتابك وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بهذا خيراً، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلي من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين.
فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون الذي يحمدون الله كل شرف، وعلى كل حال، وتذلل بالتكبير ألسنتهم، وينصر الله نبيهم على كل ما ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت في نفسي: والله ما علمني شيئاً خيراً لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة، فقلت: هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين، وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي: إنّي لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: في نفسي: لعله لم يكن الذي كنت أظن.
ثم بلغني أن خليفة قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلاً حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر، وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى ما تكون عاقبتهم. فلم أزل أقدذم ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذي كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام.
فوالله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أصحاب السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [النساء: 47] فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحوّل وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام: يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسْد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون، فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال أي والذي أنزل التوراة على موسى، والذي يسمع ما تقول إنه لحق، فقال عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم برحمته التي وسعت كل شيء.
ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ملوك العرب بالشام، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقرّ بالإسلام مصدق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبد الله ورسول وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبداً فإنك تعرف أنه النبي الذي بشّر به عيسى بن مريم، ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل.
يشهد لهذا ما أخرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر بها علم أنه رسول الله، وقال إنه يملك موضع قدميّ ولو خلصت إليه لغسلت قدميه البخاري كتاب بدء الوحي.
ومن حديث زيد بن اسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام، قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصيف لك منه، فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي: أنقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أئنك على ما أرى ما نقلت شيئاً، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت: واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغة ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إليّ رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي، فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح.
فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني، ثم صعد فيّ النظر وصوّبه، فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لي على ديري هذا وما فيه، فقلت: يا هذا إنك قد صنعت إليّ صينعة فلا تكررها، فقال إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذلك، وإلا لم يضرك شيء فكتب له على ديره وما فيه، فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إليّ ثم أوكف أتاناً فقال لي: أتراها فقلت: نعم، قال سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليّ. قال فركبتها فكان كما قال، حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم.
فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه، فقال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين، قال: نعم يا أميرالمؤمنين، قال: إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك. قال: نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه.
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء؛ والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله إلى عُمان والياً عليها، فجاءه يوماً يهودي من يهود عمان فقال له: أنشدك بالله، من أرسلك إلينا؟ فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال اليهودي: والله إنك لتعلم أنه رسول الله؛ قال عمرو: نعم، فقال اليهودي: لئن كان حقاً ما تقول؛ لقد مات اليوم. فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهوديّ أن النبي صلى الله عليه وسلم مات فيه. ثم خرج فأخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم وبارك وشرف وكرم.
ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم؟ قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه، فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود، ثم ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلموه، فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر، وقال: إنه ليطوف بالأسواق، ويمشي وحده، ولا شرطة معه، ويرغب من يراه منه فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة، فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله، فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا {يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر} يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه، أو تفسير لما كتب من ذكر أو يكون استئناف وصف من اله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات، وأن الخبائث هي المستقذرات: كالخنافس والعقارب وغيرها {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة؛ وقطع موضع النجاسة من الثوب، وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك {وَعَزَّرُوهُ} أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} هو القرآن أو الشرع كله، ومعنى معه مع بعثه ورسالته.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15